تقوم الموجة الجديدة من البحوث في ريادة الأعمال، التي تشمل نقاش علم النفس التقليدي بشأن الفطرة مقارنةً بالتنشئة، بطرح السؤال الآتي: هل يولد روّاد الأعمال روّاداً أم تتمّ تنشئتهم على هذا المنوال؟
يسمح لنا فهم الأركان الأساسية والأنماط المعرفية لدى روّاد الأعمال بإدراك السِّمات الأكثر شيوعاً في شخصياتهم، وباستنتاج تأثير أنماط تفكيرهم على سلوكهم في مواقف معينة افتراضية.
الفطرة مقابل التنشئة
لسوء الحظّ (أو ربّما لحسنه)، لا يوجد “جينة لريادة الأعمال”، إذ لم يكتشف الباحثون حتّى اليوم جينةً محدّدةً أو مجموعةً من الجينات مسؤولةً عن تكوين “الـشخصية الريادية”. كما تشير مقاطع أدبية عدّة (هنا وهنا وهنا) إلى أنّ روّاد الأعمال لا يولدون رواداً، إنّما تتمّ تنشئتهم على هذا الشكل.
ويُقال إنّ جيناتنا تتفاعل مع بيئتنا بطريقةٍ معقّدةٍ للغاية. فتخيّل لو طُلب منك أن تمزج الطلاء الأحمر والطلاء الأصفر إلى أن تحصل على اللون البرتقالي، ثمّ طُلب منك أن تفصل اللون البرتقالي إلى اللونَين، الأحمر والأصفر. إنّها في الواقع مهمّةٌ مستحيلة.
ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى شخصيتنا.
فـالتفاعل المعقّد بين الجينات والبيئة يجعل فصل الجينات الخاصّة بالسمات الشخصية عن تأثير البيئة أمراً صعباً للغاية، كما يصعّب ذلك أيضاً استنتاج أنّ الجينات هي وحدها مسؤولة عن هذه السمة أو العكس.
إنّ أكثر من 60% من السمات الشخصية المهمّة وراثية، بما فيها المجازفة وتقبّل عدم وضوح الأمور. ويتأثّر مدى بروز هذه السمات بتنشئة الفرد وتجاربه في الحياة، أكان ذلك في المنزل أو المدرسة أو خلال الحياة المهنية.
بتعبيرٍ آخر، إذا امتلك الفرد جينة المجازفة ونشأ في بيئةٍ ساهمَت في تعزيز هذه السمة، يرتفع إذاً احتمال بروز المجازفة في سلوكياته.
في المحصّلة، يتكوّن ميل الفرد ليصبح رائد أعمال أو يتمتّع بخصائص ريادية من خلال تلاقي قدراته الفطرية مع تجاربه في الحياة.
سمات الشخصية الأكثر شيوعًا
على الرغم من غياب أي جينة لريادة الأعمال، توصّلَت الدراسات التي حلّلَت سمات شخصية الروّاد إلى الخصائص الآتية:
1. موضع التحكّم (Locus of control)
يميل الفرد الذي يملك موضع تحكّمٍ خارجياً نحو الاعتقاد بأنّ القوى الخارجية هي المسؤولة عن ظروفه، وغالباً ما ينسب النجاح إلى الحظّ. في المقابل، يرى الفرد الذي يملك موضع تحكّمٍ داخلياً أنّه يتحكّم بأحداث حياته، وأنّ هذه الأحداث ليسَت سوى نتاج اجتهاده في العمل وقراراته الشخصية.
“لم أحصل على التمويل لأنّني ارتكبتُ خطأً.” (الصورة لطيب عساف)
وتبيّن أنّ معظم رواد الأعمال يتمتّعون بموضع سيطرةٍ داخليّ، فهم نتيجةً لذلك يشعرون بمسؤوليةٍ أكبر تجاه إنجازاتهم ويملكون حسّاً قويّاً بالكفاءة الذاتية ويقومون بخطواتٍ ذات منحى عملي. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما يهنّئون أنفسهم على نجاحاتهم ويلومون أنفسهم إذا فشلوا.
2. الميل نحو المجازفة
إنّ روّاد الأعمال مجازفون بطبيعتهم ويسعون وراء المغامرات المحفوفة بالأخطار وذات المكافأة الكبيرة، إلّا أنّ مجازفاتهم ليسَت متهوّرةً (فمن غير المرجّح بتاتاً أن يخاطروا أو يراهنوا على الحظّ أو أن يعرّضوا أعمالهم للخطر)، بل تكون المخاطر التي يأخذونها محسوبةً. وهم يقيّمون بدقةٍ الفوائد المحتملة مقارنةً بالكلفة التي سيتكبّدونها، كما أنّ وعيهم الذاتي العالي يسهّل وصولهم إلى فهمٍ أكثر واقعيةً لقدراتهم الخاصّة وما يمكنهم أو لا يمكنهم تحقيقه.
علاوةً على ذلك، يميل الروّاد طوال مساعيهم إلى السير بهذه المجازفات المحسوبة شيئاً فشيئاً. ومن خلال الاختبارات المستمرّة والقيام بالتجارب وارتكاب الأخطاء، يكتسبون القدرة على إدراك ما ينجح معهم وما يفشل. وبالتالي، يستفيدون من هذا الإدراك في اتّخاذ القرارات في المستقبل والتقليل من الخيارات المحفوفة بالمخاطر على المدى الطويل.
3. المرونة
يغيّر معظم رواد الأعمال محور مشروعهم. و(لا بدّ أن) تنمو استراتيجياتهم والقيمة المقترحة التي يقدّمونها value proposition ومكانتهم، مع تقدّم الشركة واكتساب المؤسِّسين لمزيدٍ من البصيرة بشأن السوق. فهذا أمرٌ هامّ، وبخاصّةٍ في الوقت الذي تنمو فيه الابتكارات بسرعةٍ في السوق ويزداد تقدّم العملاء وتطلّبهم.
لقد تبيّن أنّ الروّاد يتفاعلون للغاية مع محيطهم ويتكيّفون معه. وعلى الرغم من ذلك، يضعون خططاً فعلية، إنّما من دون التمسّك بها حرفياً، ويدركون أنّ الخطط قابلة للتغيير، وأنّ لا بأس بذلك. أمّا المرونة الكافية من أجل التكيّف مع البيئة الحالية مع المحافظة في الوقت عينه على النزاهة في المنتَج والخدمات، فهي أمرٌ جوهري ويمكن أن تكون من مفاتيح النجاح.
الشخصية ليسَت كلّ شيء…
على الرغم من العثور على سمات الشخصية هذه (وغيرها) لدى عددٍ كبير من روّاد الأعمال الناجحين، لا يعني ذلك بأيّ شكلٍ من الأشكال أنّ الرائد عليه أن يتحلّى بها ليكون ناجحاً. فالشخصية والسمات مجالٌ واسع، وقد يمتلك أيٌّ كان هذه الخصائص من دون أن يصبح يوماً رائد أعمال.
ومع تزايد الأبحاث التي تدرس رواد الأعمال وتغوص في عقولهم، يتوقّع نشر أفكارٍ مُلفتةٍ جدّاً في المستقبل. لكنّ هذه الأخيرة لن تساعد في التنبّؤ بريادة الأعمال، بل ستوفّر قدراً كبيراً من المعلومات التي تتعلّق بنمط تفكير الروّاد وبقدرة هذه المتغيرات على توقّع سلوكياتهم في مختلف المواقف.
إذا تمكّنَت الأبحاث في المستقبل أن تستنتج ربّما أنّ المؤسِّسين الذين يملكون موضع سيطرةٍ داخليٍّ أكثر قوةٍ يكونون أكثر إنتاجيةً بنسبة 77% بعد الاستثمار، مقارنةً بالمؤسِّسين الذين يملكون موضع سيطرةٍ أضعف – تخيّل مدى فائدة هذا النوع من المعلومات للمستثمِرين.
المصدر: موقع وميض