دائما نسمع عن السببية ونفترضها عنصر أساسي في فهمنا لماهية ما يجري من حولنا فنقول إنه لكل فعل مسبب فعله. هذا صحيح على المستوى المتوسط الذي يعيش به الإنسان، لكن إذا ما رفعنا الغطاء عن محرك الكون على المستوى الذري نجد أن السببية ليست كما نفترضها. نحن دائماً نفترض أن السببية هي علاقة بين حدثين فيكون الحدث الناتج عن مسببه واقع بعده زمنياً أي أن الكوب الذي ينكسر يجب أن يقع على الأرض أولاً، لكن ماذا لوكان وقوع الكوب على الأرض محكوم باحتمال انكسار الكوب أم لا. إن كان الكوب سينكسر إن وقع يحدد وقوعه عن عدمه.
أدعوك أن تخوض معي بهذا المقال لنكشف الغطاء عن السببية على المستوى الذري.
سأحاول أن أخبركم عن ظاهرة فيزيائية تخالف كل ما نعتبره منطقي في حياتنا اليومية وسأطرح فكرة ستجعل من هذه الظاهرة غير المنطقية أكثر غرابة وتجعلنا نشك بأكثر المبادئ الاساسية بالنسبة لنا. مبدأ السببية الذي نفترض بسببه أن لكل فعل مسبب قد سبقه.
ماهي السببية؟
السببية هي مصطلح فلسفي علمي يشير لعلاقة بين حدثين فيكون الحدث الثاني نتيجة عن الحدث الأول ويكون الحدث الأول سابقاً زمنياً للحدث الثاني فعندما أفتح الباب يكون حدث دفعي للباب سابقاً لحدث تحرك دفة الباب. أعرف أن هذا التوصيف قد يبدو بديهي لكن صبراً معي لأننا سنخوض في تفاصيل مركبة بعض الشيء ومن المهم توضيح جميع المفاهيم.
ما هو الحدث؟
عندما نقول “حدث” فإن الحدث هو تفاعل فيزيائي يحدث ضمن مكان وزمان محددين. مثلاً أنا الآن في اليابان أكتب هذا المقال في الساعة ٩:٥٠ صباحاً. هذا الحدث لن يتكرر مرة أخرى في تاريخ الكون. وذلك لأن موقع الكرة الأرضية وموقعي أنا في تلك اللحظة الزمنية (كمية الإنتروبي المنتشرة) لن تتكرر. من الناحية الفيزيائية لا يمكننا وضع ذرتين (بروتون ـ إلكترون – نيوترون) في حدث واحد مهما كان. إذ أن كل ذرة تحتل مكان وزمان محدد لا يمكن لذرة آخرى أن تحتل مكانها في نفس المكان والزمان. هذا ممنوع في الكون (أنا أتحدث عن الفريمونات).
(تأمل هذه الفكرة: لا يوجد حدثين في نفس الوقت في الكون)
هذا يعني أننا عندما نقول أن شيء حدث في نفس الوقت فهذا ليس دقيق لأن الحدثين لم يتواجدا في نفس الزمان والمكان ودائماً يوجد فرق زماني ومكاني بينهما. أنت عندما تريد ارسال بريد عادي عليك كتابة العنوان الذي يتوجب ارسال الرسالة له. أنت لا تبدأ الرسالة بكوكب الأرض ضمن العنوان لأن هذا يعد بديهي لكن عليك كتابة اسم الدولة ثم اسم المدينة ثم رقم الشارع ثم رقم الشقة. الآن إذا اردت أن تقابل أحد اصدقائك في مكان ما فإن إعطائه العنوان لا يكفي. يجب تحديد زمن معين يحدث فيه اللقاء. بعدّي المكان والزمن (الزمكان) يؤدي لتحديد موعد محدد لحدث اللقاء. إذاً المكان والزمان هما متغيرين أساسيين لوقوع حدث ما في الكون. غياب أحد هذين البعدين يجعل من عملية تحديد الحدث بشكل دقيق أمر مستحيل.
بعض الأحيان نسمع مصطلح أفق الحدث عند الحديث عن الثقوب السوداء. أفق الحدث هو النقطة التي يصبح فيها انحناء المكان أقصى من أن يستطيع الضوء المرور من خلاله. الآن عندما نقول سرعة الضوء فإنه في الواقع لا يوجد شيء اسمه سرعة الضوء وإنما سرعة السببية. سرعة السببية هي السرعة القصوى في الكون التي ممكن لأي معلومة الانتقال ضمنها. الضوء (الفوتونات) من أحد الظواهر الفيزيائية التي تستغل السرعة القصوى للسببية لكن بسبب أهمية الضوء بالنسبة للإنسان نطلق اسم سرعة الضوء على سرعة السببية. مثلاً الجاذبية سرعتها ليست بسرعة الضوء وإنما الجاذبية والضوء بسرعة السببية.
السببية التي نشعر بها نحن البشر ونمارسها في حياتنا اليومية ونعتبرها جزء أساسي من الكون تختفي عندما نغوص في عالم الذرة ونبحث في تفاعلات الفيزياء الكمية. ضمن المقال سنجد أن مبدأ السببية الزمنية يصبح ضبابي في أضعف تقدير أو ربما غير موجود. أعلم أن تقبل هذه الفكرة سيكون صعب لأنها تخالف كل ما نعرفه من تجارب يومية إلا أنه يجدر الذكر أن الإنسان يفقد قدرته على فهم الفيزياء الكمية بشكل غريزي في الشهور الأولى بعد الولادة. التجارب تشير على أن الأطفال في شهورهم الأولى يتوقعون السببية كجزء أساسي من التفاعلات الفيزيائية التي حولهم فعندما نخالف مبدأ السببية في تجربة ما تظهر علامات الاستغراب لديهم. الإنسان وجميع الكائنات تفترض وجود السببية من حولها وذلك لأن السببية تبدو واقعية على مستوى حجمها (حجم متوسط ليس ذري وليس كوني) ولأن هذه الكائنات تطورت على البقاء وليس فهم الكون على المستوى الذري.
Double- Slit Experiment :
حسناً لنأخذ الموضوع خطوة خطوة قصتنا تبدأ عند تجربة فيزيائية شهيرة جداً تسمى تجربة شقي يونغ. تخيل أنه لدينا بندقية تستطيع إطلاق كرات صغيرة ملونة بشكل مستمر. هذه الكرات الملونة ستصبغ الجسم الذي تصطدم به عند التماس. الآن نضع حائط أمام هذه البندقية وضمن هذا الحائط يوجد شق طولي على نفس مسافة ارتفاع الحائط. الآن نضع شاشة بيضاء خلف الحائط لاستقبال الكرات الصغيرة الملونة في حال أنها مرت من خلال الشق الموجود في الحائط.
نبدأ إطلاق الكرات الملونة عبر الشق الموجود في الجدار وكما هو متوقع نجد أن خط طولي بدأ بالتشكل على الشاشة البيضاء المتواجدة خلف الحائط. هذا الخط متوازي تماماً مع الشق الموجود في الحائط إذ أن الكرات الملونة تمر من خلال الشق وترتطم بالشاشة البيضاء وهكذا تشكل الخط الطولي.
إلى حد الآن كل شيء منطقي ولا يوجد داع للاهتمام. الآن نضع فتحة ثانية في الجدار فيصبح لدينا شقين طولين متوازيين على الجدار (أشبه برقم ١١ على الجدار). نبدأ بإطلاق الكرات الملونة من خلال الفتحتين المتواجدتين على الجدار. الشكل الجديد هو أيضاً خطين طولين متوازيين تماماً (أشبه برقم ١١ أيضاً).
أود منك أن تضع هذه التجربة جانباً سنعود إليها قريباً.
التداخل الموجي:
على فرض أننا رمينا حجر في الماء فسينتج موجة صغيرة تنطلق من نقطة سقوط الحجر في الماء. هذه الموجة تنتقل بشكل دائري في جميع الاتجاهات. الأن إن رمينا حجرين في الماء فإن الأمواج الناتجة عن سقوطهما ستبدآن بشكل دائري إلى أن تتفاوت مع بعضها البعض فيحدث ما يسمى تداخل موجي.
الآن لنعود لتجربة الحائط المفتوح من شقين عاموديين.
سنستبدل البندقية التي تطلق الطابات الملونة ونحضر حوض ماء كبير على شكل مستطيل. إذا أسقطنا حجر في الماء فأن موجة ستنتج عن الحجر وتتجه باتجاه الحائط. إذا كان الحائط ذو فتحة واحدة فإن الموجة ستمر من الفتحة وتشكل موجة جديدة. هذه الموجة الجديدة سيتم رصدها من قبل الشاشة البيضاء عند أول نقطة تماس بين الموجة وبين الشاشة.
الآن سنضع الحائط ذو الفتحتين العامودية في منتصف الحوض ثم سنقوم بوضع الشاشة البيضاء في نهاية الحوض. نقوم بإسقاط حجر في طرف الحوض لكي تتشكل لدينا موجة. تتجه الموجة باتجاه الفتحات الموجودة على الحائط. بعد مرور الموجة من فتحات الحائط يتشكل لدينا تداخل موجي بسبب مرور الموجة من فتحتي الحائط وثم التقائهم من جديد بعد الخروج من فتحات الحائط. الشاشة البيضاء ترصد تماس الأمواج عليها وتؤكد وجود تداخل موجي بحيث نجد خطوط عامودية على كامل مساحة الشاشة البيضاء وليس فقط خلف فتحتي الحائط.
المصدر: موقع علومي